أيها الإنسان العزيز، لك الترحيب في لمس الكلمات وتحسين المعاني
١
كيفَ نُعبّرُ عن الدربِ الحقيقي، عن كينونةِ الوجود؟
الكلماتُ تُخفق، تُضلّ، تُفتقرُ إلى السدُود
ما لا اسمَ لهُ، هو سرُّ الأرضِ والسّماء
وما لهُ اسمٌ، محصورٌ في حدودِ التّسميةِ والرّجاء
لكنَ جوهرَ الشيءِ، وما أُطلقَ عليهِ من أسماء
كلاهما من حبةِ الحقيقةِ سواء
فقطُ الشّهواتُ تُعقّدُ الفهمَ وتشوّشُ الرؤى
ومن تحرّرَ منها، أدركَ الأصلَ في سُرى
متخفٍّ في تَجلّياتِ الأشكالِ العشوائيّة
من القولِ إلى الجوهرِ: طريقُ الأعجوبةِ الأزليّة
٢
ما الخيرُ وما الشّرُّ؟ أهما في الجوهرِ نقيضان؟
أم مجرّدُ وَصفَينِ وُلِدا من ميزانِ التّعيينِ والبيان؟
حينَ نُسمّي، نحدُّ
وحين نُحدِّ، نُفارقُ المعنى الأوّلَ، ونبتعدُ
فالحُسنُ لا يُدرَكُ إلا بجوارِ القُبح
والموتُ لا يُعرَفُ إلا بظلِّ الحياةِ والرّوح
ما طالَ، طالَ لأنّ ما هو أقصرُ منهُ قائم
وما سَمَا، ارتفعَ من قاعٍ عميقٍ قديم
الصّوتُ لا يكتملُ إلّا برفيقهِ،
ومن بينِ الأصداءِ تُولَدُ النّغمةُ، ويتكوّنُ الإيقاعُ
الزّمنُ سلسلةٌ: مستقبلٌ، حاضرٌ، وماضٍ
يمضي الواحدُ فيها بعد الآخرِ، كالموجِ في بحارِ السّكونِ والرّغبة
فلذلكَ،
الحكيمُ لا يفعلُ، ويتركُ الفعلَ ليكون
يُعلّمُ بصمتٍ، ويُشيرُ بلا لسانٍ أو مضمون
يُبدعُ دون أن يمتلكَ ما أبدع
ويُطلِقُ الحركةَ دونَ قوّةٍ تُحرّكُها، مرّةً بعد مرّة
يُولّدُ التّغيّرَ دونَ مشقّة، ودونَ افتخار
وفي كلّ اكتمالٍ لا يُعلّقُ تاجًا على رأسهِ ولا يطلبُ الاعتراف
ومع هذا، لا يفقدُ وقارهُ، ولا يتنازلُ عن محبّةِ ذاتهِ
٣
متى لم يُلهِنا العلمُ عن التوقير
فمن يُخاصمُ طلبًا للتبرير؟
ومتى لم تُغوِ الزينةُ النفوسَ بالامتلاك
فمن يسرقُ لأجلِ درٍّ أو بريقٍ براّق؟
ومتى لم نُشْهِد أعينَ الناسِ على ما يُشتهى
فأيُّ شيءٍ يحرّكُ القلوبَ أو يُبكيها؟
لذلك، إذا تولّى الحكيمُ الدفّة
أشبعَ الجائعَ، وكسى العاري، لا يُخفّفُ عنهم الكُلْفة
يهدمُ المعرفةَ التي تُغذّي الطموح
ويُضعفُ الإرادةَ، ويُطفِئُ نارَ الشّغفِ والجموح
أما العارفون، فلا يُحرّكونَ السّكون
لأنّ السّلامَ لا يُولَدُ إلا من السّكوتِ وعدمِ الفتون
٤
ليس من الهيِّن وصفُ الدربِ أو تعريفُهُ
فما لا جسدَ لهُ، فيهِ منبعُ كلِّ الموجوداتِ وكنهُهُ
فارغٌ، لكنَّ تجليّاتِه لا تُعدّ
بلا شكلٍ، ومع هذا، منهُ الأشكالُ تُستمدّ
بلا قاعٍ، ومع هذا، هو أصلُ الظواهرِ في العالمِ الرحيب
لا شيءَ يُقارنُ بهِ، إذ كلُّ ما هو كائنٌ، بجانبهِ غبارٌ غريب
ضياؤهُ، بصيرتهُ، ونبضُهُ المبهمُ الرؤى
لا يُقارنُ إلا بعظمةِ الفوضى
هوَ الأسبقُ، قبلَ أوّلِ البداياتِ
ولا أدري، من أينَ أتى؟ من صنعَهُ؟ أو ما هوَ سرُّ كينونتِهِ في الجهاتِ
٥
الأرضُ والسّماءُ تُطالعانِ الألمَ بلا اكتراث
فالطّبيعةُ لا تميلُ إلى الرّحمةِ أو الحنان
ولا تُحاولُ، بدافعِ الشّفقة، أن تُغيّرَ مجرى الأكوان
فكلُّ شيءٍ عندها يسيرُ بثباتٍ، دونَ خُسران
وهكذا الحكيمُ، إذ يتّبعُ قوانينَ الطبيعةِ في سُكون
لا يرى في "الإنسانيّة" نفعًا يُفيدُ الجُموع
بل يُقدّرُ الحياةَ الطّبيعيّةَ للناسِ دونَ ادّعاءٍ أو فُتون
بعضُ الأشياءِ قيمتُها في الفراغِ الكامنِ فيها
كالمزمارِ، أو منفاخِ النّارِ في يدي الحداد
كلّما ازدادَ الفراغُ، زادَ الحُرّ في الحركةِ والسّرعةِ والسّداد
فالمزيدُ من التدفّق، يمنحُ فائدةً أكبر في الامتداد
وكذلكَ الفراغُ بين الأرضِ والسّماء
كالناي، كالمِنفاخ، بروعتهِ هوَ الخلاء
فلا داعيَ للإطالةِ في الكلام
في كلِّ أمرٍ، الاعتدالُ هو خيرُ نظام
٦
في سعيكَ خلفَ أصلِ الكونِ، أصلِ السّماءِ والأرض
تجدُ بابًا هوَ أساسُ الوجودِ وسِرُّهُ المُمتدّ
في أعماقِ هذا البابِ، جذورُ البدءِ والولادةِ الأولى
وخلفهُ — اللاشيء، الفراغُ، السُّكونُ بلا صُوَرٍ ولا حُدود
البابُ عبورٌ من «ربّما» إلى «ها هوَ»، خلقٌ أبديٌّ لا ينقضي
من الفراغِ — انبثاقٌ لا محدودٌ للتّجلّيات
تجلٍّ كخيطٍ لا ينقطعُ، يمتدُّ في الأبدِ بلا توقّفٍ أو نِهاية
٧
لأنَّها لا تهتمُّ بذاتِها، طالت حياةُ الأرضِ والسماء
وهكذا يفعلُ الحكيم، لا يجعلُ من ذاتِه همَّهُ ومبتغاهُ
يُعطى طولُ العمرِ لمن لا يتمسّكُ بالحياةِ بقوّة
ومن أرادَ أن يكونَ في الأخير، تقدّم
ومن لم يخشَ الفقدَ، وجَدَ السعادة
ومن لم يحرصْ على ذاتِه، لم تتركهُ الحظوظُ يومًا
٨
الماءُ أسمى مثالٍ للعزّةِ والرفعةِ في الحياة
يمنحُ النفعَ للناسِ، ويسعى إلى السكينةِ والثبات
لا يُخاصمُ أحدًا على المكانةِ أو الجاه
ويكتفي بالموضعِ الأدنى، حيثُ يزدريه الناسُ في جهلٍ وجفاة
تأمّلْ فيه، ترى فيه وجهَك — مرآة
وسيلانهُ كجريانِ الدربِ — بلا صوتٍ ولا عنفٍ، بل هداة
وكذلكَ الحكيمُ، باتّباعِ صوتِ قلبهِ الرقيق
ودودٌ مع الجميع، ومسكنُهُ بسيطٌ عميق
كلامهُ صدقٌ، ويقودُ القومَ بلينٍ وطريق
يُحسنُ التوقيتَ، ولا يحملُ إلا ما يطيق
متواضعٌ كالماءِ، ويسعى دومًا نحوَ السكون
فتجتنبُهُ الأخطاءُ والمصائبُ في كلِّ حينٍ ومكانٍ وفنون
٩
عليك أن تعرف متى تتوقف
لا يُمكن ملء الإناء فوق حدّه
الثروة الزائدة يصعب حمايتها
والسيف الحادّ أكثر من اللازم يَبهت سريعًا
والتباهي بالمكانة والمال بلا حدود
يَجلب المصائب إلى البيت
عندما تَكملُ عملك، ارحلْ بهدوء
هذا هو قانون الطبيعة في درب الطاو
١٠
إذا اتّحدتَ مع نفسك، جسدًا وروحًا
واستطعتَ ألّا تُضيع ذاتك في الطريق
وإذا سكّنتَ أنفاسك الزائدة
فعدتَ كرضيعٍ من جديد
وإذا صفّيتَ بصرك وتأمّلك
فنجوتَ من الخطأ والضلال
وإذا أحببتَ قومك ببساطةٍ وصدق
وأنت تتولّى الحكم عليهم
وتمكنتَ من القيادة دون خُدعٍ ولا مكر
وإذا كنتَ كالأمّ الأزلية
تعطي الحياة أو الموت بلا تردّد
ومع ذلك لا تفقدُ سلامك الداخلي
وإذا استطعتَ أن تدرك العالمَ بأسره —
فارعَ، وعلّم، واهتمّ، كما لو أنك تولد من جديد
وابنِ عالمك دون أن تمتلكه
واعملْ، ولا تنتظر جزاءً
تولَّ الأمر، دون أن تسعى للتكريم —
فهكذا تَعرفُ نعمة الده
١١
ما فائدةُ العجلة إن لم يكنْ فيها ثقبٌ للمِحور؟
الإناءُ من طين، لكنّ الفائدةَ في فراغه
وكلّما اتّسع الفراغُ في البيت، زاد الراحةَ والجَمالَ
فهكذا الفراغُ هو من يصنعُ الفائدة
وما يملؤهُ هو ما يجلبُ الرزق
١٢
الألوانُ الكثيرة تُضعِفُ البصر
والأصواتُ العالية تُرهِقُ السمع
تنوعُ الطعوم يُبلّدُ الإحساس
والقلبُ لا يحتاجُ لهوًا يُربكهُ
الرغباتُ الزائدة تُعطّلُ السلامَ في الحياة
والكنوزُ تجلبُ الطمعَ والجريمة
لكنّ الحكيمَ لا تُغريهِ الزينة
بل يُفضّلُ أن يفكّرَ في طعامه
١٣
المدحُ والعارُ يُقلِقانِنا على حدٍّ سواء
فكلما زادَ تقديرُكَ لنفسِك، زادَ الخوف
إذا أعطيتَ لنفسِك ثمنًا وقيمةً عالية
تخافُ أن تفقدَ اسمَك الطيّبَ وسمعتَك
وفي المصائبِ، خوفُ الناسِ يُصبحُ شديدًا
أما إذا لم تُعظّمْ ذاتَك كثيرًا
فلن تؤثّر فيك آراءُ الآخرين
إن رفعتَ نفسَك فوقَ هذا العالمِ في فكرك
أصبحتَ أكثرَ اعتمادًا عليه وأكثرَ ضعفًا
لكن إن كرّستَ حياتَك للناسِ بصدقٍ وبساطة
وتقبّلتَ هذا العالمَ كما هو
فستحصلُ على ثقةِ الناسِ ومحبّتِهم
فمَن ذا الذي يسلّمُ لهُ العالمُ نفسَهُ كلّيًّا؟
ذلك الذي لا يرى نفسَهُ مختلفًا عنهُ أو منفصلًا عنهُ
١٣.١
المدحُ والعارُ همّا ثقيل
كِلاهما يُشعلُ نارَ السبيل
كلما زدتَ لنفسِكَ قدرًا
زادَ الخوفُ، واشتدَّ أمرًا
إن خِفتَ ضياعَ اسمِك الطيبْ
فالعيشُ يصيرُ مريرًا مقلّبْ
وفي لحظةِ ضعفٍ أو ضيقِ حالْ
خوفُ الجموعِ يكونُ وبال
لكنْ إن قللتَ من ذاتِك وزنًا
تصفو حياتُك، يهدأُ ذِهنًا
لا تُهزُّ برأيٍ، ولا بانفعالْ
فأنتَ كالنهرِ... صامتٌ، زلالْ
إن رفعتَ النفسَ فوقَ المدارْ
ستزيدُ من التبعيّةِ والاحتكارْ
لكنْ إن أعطيتَ الناسَ الحياةْ
ونسيتَ نفسكَ في الخدمةِ ذاتْ
ستكسبُ ودَّ الجميعِ ورضاهْ
لأنَّ الكونَ يُسلمُ من لا يراهْ
كمن يفصلُ نفسَهُ عن الوجودْ
بل يذوبُ بهِ، دونَ قيودْ
١٤
حدود الحواس تضع قيودًا على معرفة الداو:
لا يُسمَع — لأنه أبعد من الصوت
لا يُرى — لأنه أبعد من النظر
لا يُلْمَس — لأنه أبعد من اللمس
هو واحد، لا يمكن تعريفه
ولا يمكن شرحه بأي علم
ارتفاعه لا يجلب النور
سقوطه لا يجلب الظلمة
ما بلا اسم، موجود دائمًا
ويعود دائمًا إلى اللاوجود
شكل بلا شكل، صورة بلا محتوى
غامض، ضبابي — كل الأسماء تعجز
من يقف أمامه لا يرى وجهه
ومن يسير خلفه لا يجد الاتجاه
قانونه يوحّد كل الأزمنة
ومن يتبعه يُتقن الحاضر
ويعرف أصل العالم
هذا القانون يسمّى خيط الداو الأبدي
١٥
ناس الداو في القديم دخلوا بعمق في جوهر الأشياء
ماذا أن أولئك الذين ليس لديهم معرفة لا يكادون يفهمونهم
لذلك سأرسم فقط صورة
لسلوكهم
الذي يظهر فيه نظرتهم للعالم من الخارج
كانوا يسيرون في حياتهم بلطف شديد
كأنهم يعبرون نهرًا على جليد رقيق
وكانوا حذرين جدًا في تصرفاتهم
كأن عدوًا قد يهاجم في أي لحظة
لم يكونوا ماكرين، بل كأشجار بسيطة
تصرفوا كما الضيوف، بأدب واحترام
رقيقين مثل جليد الربيع
منتبهين مثل بيت ينتظر عزيزًا أن يعود
ولا يمكن اختراقهم، كطين سائل نازل من الجبال بسرعة
كانوا غير مفهومين للناس
لكنهم كانوا يوضحون ما هو غامض
رغم أنهم بقوا في حالة عدم الفعل
كانوا يشجعون الآخرين على العمل والنجاح
ثبتوا في التمسك بالداو
وكانت رغباتهم قليلة ونادرة
اكتفوا بالقليل بتواضع
تقبلوا الفقر بسلام
ولم يخترعوا شيئًا جديدًا
١٦
بالمحافظة على وعيي في سكون تام
أبلغ الفراغَ الذي لا حدّ له
وبصمتٍ أراقب
كيف تزدهر الظواهر في اندفاع الحياة
ثم تعود ببطء إلى أصلها
تعود إلى السكون والفراغ:
قدر الجميع بلا خيار أخير
هذا الدوران هو إتمام أبدي
يسمّيه أهل الداو قانون الثبات
ومعرفة هذا القانون تعني الاستنارة
ومن يُهمله، يدفعه ذلك إلى الشر
ومن يقبله، يدرك
أن في هذا القانون تتجلى عدالة الطبيعة
القانون الإلهي الذي يحكم العالم —
هو الشيء الوحيد الذي لا يُفنى:
بلا جسد، غير مهيأ للموت ولا لنفاد الزمن
وجود الداو أبدي، لا ينتهي
١٧
لا يُؤتَمنُ على الجموعِ
مَن يزرع الشكَّ في الضلوعِ
أسوأُ الناسِ في الإدارة
يكرهُهُ الكلُّ ببساطة
من يُخيفُهم جميعًا
قد يحقّق بعض طاعة
لكن الأفضلَ بالتأكيد
من ينالَ الحبّ الشديد
والقائدُ الأعظمُ حقًّا
ليس معروفًا في النُطقِ
لا يُلقي خطبًا، لا يُرى
لكن يبلغُ الغايةَ سِرّا
والجميعُ قالوا بصفا،
"!كلُّ شيءٍ سارَ كما يُرتَجى»
١٨
حين يفقد الناس في أنفسهم درب الداو
تُفرض عليهم القوانين من الخارج بالقساوة
حين يعجز المرء عن عيش ضميره
يقف أمام واجب مدنيّ وعائليّ
وحين يولد العقل المتحذلق مبادئَ من غروره
تتسلّل الرياء والاحتقار والبغضاء بسرعة
في الأسرة التي يكثر فيها اللوم والعناد
تُكرَّر كلمات "الواجب" في الخُطب والعتاب
وأين تُرفَع رايات الولاء والانضباط بلا حساب؟
في الوطن الذي يعيش في فوضى واضطراب
١٩
لو لم تكن هناك علومٌ ومعارف
لكان الناس أسعد مئة مرّة
لو لم يوجد الحِرَفيُّونُ صانعو الأشياءِ الثمينة
ولا التجّارُ الطامعونَ في الربح
لما وُجد أساسٌ للجريمةِ والخداع
لو لم تكن هناك قوانينُ للعدلِ والأخلاق
وتلك القيودُ التي تفرضها الدولُ على الجميع
لعاد الناسُ إلى الانسجامِ داخل الأسرة
كلُّ هذه الأمثلةِ تقول شيئًا واحدًا
أنّ في الحياةِ ما هو أنسبُ للحكيم
البساطة
كقطعةِ خشبٍ لم تُنحَت
أو قماشٍ نقيّ لم يُصنَع
على الحكيمِ أن يتخلّى عن الأنانية
وأن يزهدَ في الرغباتِ والطموحات
٢٠
لو في كلّ زمانٍ، حتى الآن
يعاني الحكيمُ من ثقلِ الحكمة
هل المسافةُ طويلةٌ حقًا بين الاحترامِ والكره؟
وهل الفرقُ واضحٌ بين الخيرِ والشرّ؟
يخافُ من الآخرين مَن يزرع الخوفَ في قلوبهم
في وسطِ الاحتفالِ، أمشي وحدي
بلا عملٍ، بلا غاية
أجمعُ الانطباعاتِ بغيرِ وعيٍ أو تركيز
كأنني ولدتُ لتوّي، بعيونٍ مندهشةٍ وقلبٍ متعجّب
أنظرُ إلى العالمِ دون توقّع
أين المنزلُ الذي فيه أرتاح؟
لا أملَ أن أقتربَ منه يومًا
أسيرُ بغيرِ حيلةٍ
كورقةٍ صغيرةٍ على مجرى نهر
الناسُ جميعًا يسعونَ وراءَ الرزق
وأنا وحدي أُترَك على الهامش
غبيّ! لا أملكُ إنجازًا واضحًا
والجميعُ يروني بسيطًا ساذجًا
الآخرونَ لهم آراءٌ في كلّ شيء
واثقونَ بأنفسهم دون ذرةِ شك
وأنا فقط، أتيهُ في الظلام
ليلًا ونهارًا، وحدي
منذ الطفولةِ، بلا فهم
لا أجد تفسيرًا لما يعرفه الجميع
أنامُ في قاعِ محيطِ الحياةِ كحلم
كلّ الناسِ يلمعونَ في مهاراتهم
يسيرون نحو أهدافهم
باحثين عن النجاح
وأنا وحدي، بلا هدفٍ
مثل موجةٍ بلا اهتمام
أتمايلُ في الفراغ
كريحٍ عابرةٍ فوق البحر
لا أشاركُ في شؤونِ الناسِ العاديّة
أنا فقط، أرضعُ من صدرِ أمّي الطبيعة
٢١
الطاو يحدّ حدود الفضيلة
وجوهر الفضيلة ينبع من أصل الطاو
الطاو ذاته لغزٌ عجيب
وفي تعبيراته يكمن دربُ العجائب
منحٌ لما هو غامضٌ غير محدد:
في أعماقه الضبابية تختبئ صور كل شيء
وفي غموضه يُحفظ جوهرُ الحياة
وفي ظلمته التي لا تُتَخَيَّل تنبتُ بذورُ الوجود
شرارة واقعية محتملة
فيه تنعكس طبيعةُ الأشياء كلّها
منذ القدم وحتى يومنا هذا
يحاول الناس أن يشرحوه
ليعطوه اسمًا واضحًا، يُفهم بسهولة، لا يُرهب
ليكون أداةً ضرورية للفهم
لبداية كلّ أمرٍ وكلّ كينونة
٢٢
في النقصان يكمنُ جنينُ التحسُّن
المعوجّ مع الزمان نحو الاستقامة يتّجه
ولا يُملأ إلا ما هو فارغ
والقديم يحمل فرصةً للتجدُّد
ما هو نادر، فيه رجاءُ الاقتناء
وما هو زائد، فمصيره غالبًا الفقدان
التناقضات تتّحد في وحدة واحدة
هذه هي الرؤية
الحكيم يتّخذها نموذجًا للسلوك
لا يُظهر نفسه — ومع ذلك يُرى
لا يُصرّ على رأيه — لكنه على صواب
لا يمتدح ذاته — ومع ذلك الناس يعجبون به، طريقه يُحتذى
يقبل السلطة — ولا يتكبّر بها
لا يُنافس أحدًا — لذا لا يوجد من يعادله
أفلا يصحّ القول القديم:
الناقص يحفظ نواة الكامل؟
اقبلِ الحركة
كعودةٍ إلى كمالك
كأنها لمسةُ عجبٍ سريعةُ الزوال
٢٣
ريحُ الصباحِ العاتيةُ تمرُّ سريعًا
ووقتُ المطرِ الغزيرِ ينقضي قبل أن يطول
فالطبيعة لا تُسرف في كلامها
فكيف بالإنسانِ
الذي لا يحاولُ حتى أن يتناسق معها؟
أليسَ الأجدرُ به أن يحفظ كلمته؟
وأن لا يُسرف في الحديثِ عمّا هو مهم؟
من يرى حياته خدمةً لطريق الداو
يمشي على الدرب بثقة
والطريقُ يُصدّقه ويُثبّته
ومن يرى حياته خدمةً لفضيلةِ الده
يُصبح هو نفسه تجسيدًا للفضيلة
ويلقى من الحياة جوابًا من فرحٍ وسعادة
ومن يرى الحياةَ دربًا من الخسائر
فهو المذنبُ في كل مصيبة
ولن يخرج منها أبدًا
وقد قيلَ عبرَ القرونِ والسنين:
«يُعطى كلٌّ بحسبِ إيمانه»
٢٤
هل يمكنكَ أن تقف بثباتٍ طويل
وأنتَ واقفٌ على أطرافِ أصابعكَ؟
وهل بالخطوةِ الواسعةِ جدًّا
تستطيعُ أن تصلَ بعيدًا؟
من يُظهرُ نفسَه للناسِ بلا حياء
لا ينالُ الاحترامَ ولا القبول
ومن يُثني على نفسه باستمرار
لا يعرفُ طعمَ المجدِ الحقيقي
من يُهاجمُ بخيانة
لا يحققُ نجاحًا
ومن يغرقُ في الغرور
لن يُصبح قائدًا أبدًا
كلُّ الكائناتِ الحيّةِ
تتجنّب ما لا داعي له، ما فيه ضجّةٌ وزيادة
فإن أردتَ أن تسلكَ دربَ الداو
فامشِ مع الطبيعة، في هدوءٍ، بصدقٍ، وببساطة
٢٥
من كمالٍ غير منظّم
ولدَ «هو» قبل الأرضِ والسماء
غريبٌ، ساكنٌ، لا ينتمي
مكتفٍ بذاته، لا يتغير
يستمرّ في التحوّل، لا يخسر شيئًا
ينفذُ في كلّ الظواهر بلا حدود
ويَلدُ منها كلَّ الموجود
أنا لا أعرف اسمه
لكنّي أضع له رمزًا: «داو»
وإن اضطررتُ لإعطائه اسمًا
فلن أقول سوى: «العظيم»
وما معنى هذه العظمة؟
إنّها عظيمة حدَّ أن الفكر لا يمسك بها
تظنُّ أنّكَ اقتربتَ… وإذا بها تهربُ
وما تلبثُ أن تعود بك إلى الحيرة
فهل يمكن لمخلوقٍ صغيرٍ في فهمه
أن يحيطَ بما يفوق كلَّ إدراك؟
نعم، إنَّ الداو لا نهاية له
ولا حدودَ لسلطة القوانين التي تخرج منه
ولا حصرَ للأشياء التي تخضعُ لتلك القوانين
لكنّ الرغبة في الفهمِ لا تقلّ عن القوانين قوة
والعقل البشريّ قادرٌ أن يدرك عالم المادة
فهو ليس أضعف القوى — بل واحد من الكبار
وفي فهم الأشياء، تُفتح أمامه قوانينُ السماء
وبواسطتها، يبدأ بفهم الداو
ويجرؤ العقل، عبر العصور وفي كلِّ لحظة، أن يُردّد:
«أنا الإنسان — أنا الكون — أنا الإله!»
٢٦
ثقلُ الجذر هو ما يُمسكُ خفةَ النبتة
وسكونُها — هو سيّدُ حركةِ أغصانِها
ومأمنُها من جنونِ الرياح
حين يلتقي الحكيمُ بمعجزةٍ في الطريق
لا يتركُ متاعه، لا ينسى حمله
ولا يُفتنُ بجمال المنظر الساحر
فلا يرمي ثقله، ولا يركض نحوه مسحورًا
هكذا على الحاكم أن يفهم الأمور:
من يَحتقر شعبه، يسقط في الغرور
وسكونُ الناس هو أصلُ الثبات في الحكم
فكيف يسيرُ مَن اقتُلِع من الجذر، وأين المُستقَر؟
ومن يجعلُ النصرَ لنفسه وحده، فكلُّ ما حاز بلا ثمرة
وفي ركضٍ بلا معنى — يضيع المُلك بلا عثرة
٢٧
الأفضل في السفر — من لا يترك أثراً
والأفضل في القول — من لا يحتاج أن يفسّر كلامه
وأكمل التخطيطات — هي تلك التي لا تخطيط فيها
وعندما يحتاج الحكيم أن يربط بين أمرين
لا يستعمل حبلاً
لكن العقدة لا تُفكّ حتى بعد ألف عام
وإن أغلق الحكيم الأبواب
فلا أقفال يضع
ولا مفاتيح تفتحها
لهذا يعيش الحكيم بباب مفتوح
يستقبل الجميع بثقة وقلب منفتح
ولا أحد يُرفض إن أتى
سواء كان إنساناً في ضيق أو في شكّ
سواء كان مخلوقاً أو حيواناً
لا أحد يغادر بلا عون
ولذلك فهو مستعدّ ليعلّم من يريد التعلّم
ويجد في التعليم فرحه وكرامته
لكنه لا يتعلّق كثيراً بتلميذه
ويمنع الروابط التي قد تقيده بقوة
وكذلك التلميذ، كي يتقدم في علمه
لا يعطي لمعلّمه تبجيلاً مفرطاً
فالمعرفة — إن خلت من أي خطأ صغير —
هي نبع وفير للتعقيد والغباء
وهذه وحدها — حقيقة مطلقة تستحق أن تُدرك!
٢٨
حين تعي طبيعتك الذكورية
لا تنسَ الصفات الأنثوية فيك
كن وادياً بين جبلين
في ظلّ الاثنين
ترى العالم كله
كما تراه عين المولود الجديد
كاملاً، بلا تحليل
حين تتذكّر النور
لا تنسَ وجود الظلمة
فكل "نعم" تخفي "لا
وكل قولٍ يتبعه ضدّه
ولكل عصا طرفٌ آخر
أنت نفسك نموذجٌ لهذه التناقضات
وإذا وعيتَ وجود الأضداد في كل وضع
ستتجنّب معظم التعقيدات
ويصبح فهمك بلا حدود
وإن كنتَ تفكّر في المجد والرفعة
فلا تنسَ إمكانيّة الإهانة
كن كالممرّ بين التواضع والكبرياء:
فالوقوف على أحد الطرفين ليس سهلاً
لكن البقاء في المنتصف يحفظ لك السلوك النبيل
هكذا تصير طبيعيًّا مثل خشبة لم تُصقل
وكما يمكن تقطيع قطعة الخشب واستعمالها بعد تشكيل
كذلك الحكيم يَعرف كيف يستخدم اختلاف الأضداد
في أفكاره وأعماله
لكن في الحقيقة، ما هو عظيم
هو واحد، موحّد، لا ينقسم
ولا يخضع للشرح أو التّحليل
٢٩
عالمنا هذا جميل
كأنّه كأس غامض
ممتلئ بأسرار المصير والحياة
هل يمكن إخضاعه؟
من أراد السيطرة عليه
خسر في النهاية
هكذا كان الأمر دومًا
لأن التغيّر فيه دائم
لا يَصلُح للقبضة أو الحيازة
من يقود اليوم
سوف يُقاد غدًا
من يتنفّس بحريّة
سيجد نفسه مختنقًا
القويُّ يضعف
وما يُبنى، سوف يُهدم
وما يُنتزع
لن يبقى في اليد
لهذا الحكيم، حين يرى ذلك بعقله
لا يغترّ بنفسه
ولا يسكنه شغفٌ ولا رغبة
بل يبتعد عنها بفهم وهدوء
٣٠
حين يسأل الحاكمُ الحكيمَ عن فنّ القيادة
وكيف يتماشى حكمه مع نهج الـ «داو» —
لا يُقرُّ الحكيمُ باستخدام الجيوش والقوّة
فالعنفُ دائمًا يعود على صاحبه بالضربات
في الأرض التي تجتازها الجيوش
ينمو الشوك والحسَك
ويتبع الحملةَ العسكريّةَ
سنواتٌ من المجاعة والخراب والحزن
لهذا، الحكيم لا يختار القتال إلاّ مكرَهًا
ولا يقاتل إلاّ حين يُجبره الخصم
وإذا بلغ الهدف، لا يُكمل الهجوم
وإذا انتصر، لا يتفاخر، لا يفرح
لا ينهب، لا يسعى لمجد
ولا يستخدم النصر ليقوّي سلطته
فمن يزدهر بالقوّة
ومن يعلو بالسيف والهيبة —
سيضعف سريعًا ويموت قبل أوانه
وهذا مصير من لا يحترم قوانين الـ «داو
٣١
سلاحُ الحربِ — نذيرُ شُؤمٍ خطير
يُولِّد الخوفَ، الكراهيةَ، والمصيرَ الشرير
ويَرتبطُ باليمنى في التمثيل
لكنَّ من عرف "الطريق" يمقُت حملَ الحديد الثقيل
الحكيمُ في السِّلمِ يشيرُ بالشِّمال
ليُرشدَ الحاكمَ إلى الهدوء والاعتدال
لكن إن جاء يومُ اعتداءٍ وخصام
فاليمينُ تردُّ — بقدرةٍ وحِزام
في زمنِ السِّلمِ تُكرَّمُ اليدُ اليسرى
وفي زمنِ الحربِ، اليمنى تَسري
فاليسرى تُذكّرُ بأيامِ الأمان
واليمنى تُنذرُ بقدومِ الطوفان
سلاحُ الحربِ — فألٌ مشؤوم
والحاكمُ الحكيمُ لا يستخدمه إلا في لزوم
إن اضطرَّ — يستخدمه بثباتٍ ووقار
ولا يفرحُ بالنصر، ولا يَسْكرُ بانتصار
فكيف نحتفلُ بما جرّ الموتَ والأحزان؟
ومن يفرحُ — لا يفهم وجعَ الإنسان
حين يستقبلُ الحاكمُ موكبَ النصر
يوضعُ القادةُ الكبارُ على اليمينِ في حصر
والصغارُ على اليسارِ بترتيبِ المقام
كما في الجنائزِ — حيث الصمتُ والكلامُ حرام
فترتيبُ النصرِ يُشبهُ مراسمَ الدفن
فمن ماتوا بالحربِ، خلّفوا وجعًا لا يُفن
والمنتصرونَ واقفونَ، كحرّاسٍ على قبورِ الراحلين
٣٢
الداو مثل خشبٍ طبيعيٍّ كامل
لا يُسمّى بأسماء، ولا يُقسَّم إلى أجزاء
وذلك لأنّه
حتى في أصغر تجلٍّ له
لا يخضع للكل
بل متساوٍ مع ذاته، في الحجم، في الجوهر، في الكيان
لو فقط
عوضًا عن الحُكّام وأنواع السلطة جميعها
كان يمكن تطبيق هذا المبدأ في المجتمع
لما بقيَ هناك حاجة للإكراه
ولرأى كلٌّ في مصلحة الجميع مصلحته
وفي ضبط النفس لوجدت الشعوب السعادة
لا الأرز، بل ندى العسل
كان سيُقطف بسهولة من الحقول
وكانت الأرض والسماء تمتزجان في نشوة اتحاد
لكن…
هذا الحلم جميل، ومع ذلك فهو باطل
فقد أُقيم بين الناس نظامٌ مختلف — أو فوضى
أساس هذا "النظام-اللا-نظام" هو: التمييز
والاختلاف بين الصفات والطبائع
وتاج هذا المسار: الأسماء
لكلّ شيء اسم، ومع الاسم تعريف
يقف في علاقة ومقارنة إلى غيره
كما بين قطع خشبٍ ملمّعة، مطليّة باللك، للزينة
تظهر الفوارق بين الكيانات
التسمية، كما التمييز،
مفيدة في الاستخدام اليومي
مهمّة للعمل والفهم
لكنها تحمل خطر نسيان كمال العالم
من المفيد إذًا معرفة حدود اختراع الكلمات
فجميع الفروق في الألفاظ
تعود إلى واحد
أنهار مختلفة تجري كما لو كانت منفصلة
لكن إن تتبعت مجراها حتى البحر
تفهم أنّه لا انفصال في السيل
بل ماءٌ واحدٌ
كذلك الداو —
رغم تجلّياته الكثيرة
يبقى هو الواحد
كاملًا وأبديًّا
٣٣
من يعرف الوتر الخفي في نفوس الآخرين، فهو حكيم
ومن يرى الجوانب المظلمة في قلبه، فقد أضاء روحه
من ذاق طعم الانتصار على غيره، فهو بطل قوي
لكن الأقوى حقًا، من انتصر على نفسه
من رضي عن نفسه، وعن ترتيبه لحياته، فهو غني
لكن من تسعى روحه نحو نجاحات جديدة، فهو ثابت لا يلين
من لم يَضِع هدفه في طريق طويل
طال عمره معه
ومن مات ولم يُمحَ من الذاكرة
فروحه تبقى، ولو جسده لا
٣٤
فكما نهرٌ في الربيع، فاضَ عن شُطآنِه
هكذا هو الداۤؤ —
لا حدودَ له، لا يمينَ ولا يسار
لا يوجِّه ولا يُوجَّه
فيه خَلائِقٌ لا تُحصى
لا تدري أنَّه موجود
تُولَد منه، وتعود إليه
هو من يُبدعُ كلَّ كائنٍ وساكن
ولا يطلب شيئًا مقابِلَ ما يهب
يغذِّي العالمَ بقوَّةِ الخَلق
دون أن يُجبر أحدًا على الطاعة
لا رغبةَ له، لا غايةَ لنفسِه
ومع هذا يُرى —
تافهًا أو ضعيفًا في نظرِ الناس
لأن وجهه بسيطٌ، لا يتزيّن
لكن الداۤؤ — يَحتَضنُ العالمَ كلَّه
يقبل الجميع، لا يرفض أحدًا
ولا يعتبر نفسَه سيدًا ولا عظيمًا
بل يُعلِّمُنا: هذه هي العظمةُ الحقيقية
٣٥
من سار على نهجِ الداو، تجنَّب الأذى
فالكونُ دائمُ الحركة، يطلبُ السكون
وما يُوقِفُ الحكيمَ في مسيره
إلّا فرحٌ بسيط، أو طعامٌ يسدّ الجوع
لكنّ الداو ليسَ بطعام
لا يُرى، لا يُشمّ، لا يُذاق
ومع هذا
من يتعلّم أن يستقي السرور منه
يجد ينبوعًا لا ينضب
وفرحًا لا ينتهي
حتى دون أن يَعرفَ ما هو
٣٦
لكي تَقبِض، لا بُدّ أولاً أن تَبسط
ولكي تُوهِن، دَع القوّة تزداد
ولكي تُفنِي، دَع الشيء يَزهُو ويَمتدّ
وإن أردتَ الأخذ، فابدأ بالعطاء السخيّ
تلك هي الحكمة التي
تجعل من الضعف غالبًا للقوّة
وكما لا يخرج السمك من عُمق المياه
كذلك الدولة لا تُفصِح عن طُرُقها لشعبها
٣٧
الداو دومًا مقيم في اللا-فعل
لكن لا يترك أمرًا دون تمام أو إنجاز
ولو أن الحكّام سلكوا ذات السلوك
لتفتّح الكون وحده، كما يُفترض، من دون افتعال
لكن، إن تململ أحدٌ من تغيّرات الطبيعة
وسعى بإرادته ليُضيف ما لا لزوم له
فينبغي كبحُ تلك الرغبات فورًا
وإرجاعه ببساطةٍ إلى بساطة الأصل
فالطبيعة لا اسم لها، ولا يشوبها شوق أو طمع
ولذا تنال السكينة، من غير هوًى ولا انفعال
ومن غياب الرغبة ينبثق طريق نحو الهدوء العميق
وعندها النظام يتجلّى، وحده، تحت القمر، فوق الأرض
٣٨
الصفات الطيّبة حقًا
لا تسعى لأن تُظهِر طيبتها — فهي لا تتكلّف
وكلما قلّ الادّعاء، سمت الأخلاق
ومن هذا يمكن قياس الفضائل والمُثل
صاحب الفضيلة العُظمى لا يتعمّد الأفعال
لا هدف عنده، لا خطط، لا سعي
ومع ذلك، لا يترك شيئًا ضروريًا دون أن يتم
الإنسانية الرفيعة تظهر بدافع القلب
لا طمعًا في شكرٍ أو امتنان من الناس
أما "العدالة السامية" فهي مليئة بالنيّة —
لضبط كل شيء بحيث يناسب مقاييسها الضيقة
و"اللباقة الراقية" تحصر كل الأفعال في طقوسٍ ومراسم
وتُرغم من لا يتّبع الطقس بإرادته على الخضوع له
هكذا نرى أنه:
إذا ضاع الداو، تبقّى الدِه
وإذا فُقد الدِه، فتبقى الإنسانية
وإذا تلاشت الرحمة، يبقى القانون
وإن زال القانون، لم يبقَ سوى الطقوس والمراسم
لكن الطقس قشرة فارغة من الإيمان
وحين تصير الفكرة زينةً وزخرفًا
تكون بداية الجهل، وميلاد الغباء
وإشارة أولى لقرب الفوضى والانهيار
لذلك، الحكيم لا يختار القشرة — بل الجوهر
ولا يلهث وراء الأزهار — بل يطلب الثمار
٣٩
كل ما وُجد منذ القِدم،
قد تشكّل ليبلغ كماله ووحدته
السماء تسعى لأن تكون صافية، شفّافة، خالية
الأرض تفخر بثباتها، برسوخها
والماء يجري، يملأ عروق الجداول
وما من كائنٍ حيٍّ سئِم أن يلد أجيالًا جديدة
الحاكم يحفظ وحدة الدولة
حين يُظهر لشعبه مثال الخصال الرفيعة في ذاته
ففقدان الكمال يؤدّي دومًا إلى خطر:
كسحابة رعد تمزّق السماء إربًا
أو أرضٍ قد تنشطر تحت وطأة الزلزال
أو نهرٍ ينضب، فيندثر مجراه في صحراء نسيان
وكذا النوع الحي يندثر، إن لم يمنح حياةً لمن بعده
إن لم يكن الحاكم على علوّ أخلاقي يراه الناس،
فحُكمه على شفا الانهيار
لأنّ العالي يستند إلى الداني
والشعوب هي التي تسند السلطة
أفليس لذلك سبب وجيه ليوقّرهم ويقدّرهم؟
وقد يقول حاكم ذات يوم:
"أنا تافه، بائس، فقير"
علّه ينال دعمًا أو شفقة
لكن هذا مسارٌ زائف —
فهو يعجّل بفقدان الاحترام والهيبة في أعين شعبه
تأمّل: إنْ فُكِّكت العربة،
فلن يُركب منها شيء ذو فائدة
فكل شيء نافع في تمامه
حين تنسجم أجزاؤه في تناسقٍ دقيق
لهذا، لا ينبغي الوقوع في الغرور
والظنّ بأنك ياقوتةٌ ثمينة فريدة
لكن كذلك، لا تظنّ بنفسك مجرد حصاةٍ مرمية
٤٠
حركة الـ"طاو" تنبع من النفي
ومن الضعف ينبثق محرّك دوران الأكوان
من الوجود تنشأ ولادة الأشياء كلّها
لكن ظهور الوجود ذاته —
فهو نتيجة نفيٍ لما يُسمّى وجودًا
٤١
حين يسمع الحكيم عن الـداو
يسعى جاهدًا ليجسّده في حياته
الإنسان العاديّ يتحمّس... ثم ينسحب
أما الأحمق، فيسخر منه
لكن، لولا السخرية، لما كان الـداو على حقيقته
يقولون:
العالِم بنور الروح يبدو غريبًا
ومن يرى الطريق الواضح، يُظنّ أنه تائه
ومن ارتفع بروحه، يُرى وكأنه سقط
والنقيّ إلى أقصى درجة، يظهر في أعين الناس كفاسق
تلك مفارقات كثيرة يمكن ذكرها...
فالكثرة المطلقة، توحي للناس بنقص
وغالبًا، يُشتمّ الكذب في أعلى الفضائل!
في عالم متقلّب، من الصعب العثور على حقيقةٍ ثابتة
ما هو عظيم، يتجاوز الإدراك المعتاد
زوايا المربّع العظيم لا يمكن تحديدها
الهدية الكبرى لا تأتي إلا بعد صبر طويل
والصوت الأقوى لا يُسمع بالأذن
وصورة الـداو الكبرى... بلا شكل واضح
لا اسم له — يختبئ كنسمة خفيّة
ومع ذلك، الـداو هو من يبدأ كل شيء في العالم
وهو من يقود كل شيء إلى التمام
هل ترغب أن نجرب أيضًا نسخة شاعرية مميزة بالعربية الفصحى القديمة؟ أو بأسلوب مغاربي، شامي، أو دارج بسيط؟ كل طريقة تعكس زاوية مختلفة من الضوء الذي يشعّ من هذا النص العظيم 🌟
٤٢
الداو لا ينقسم
وهو أساس وحدة هذا العالم
وعند النظر بعين قريبة إلى وحدة كل شيء
نجد دائمًا قطبين:
اتجاهين لا يجتمعان
صفاتٍ متقابلة تتحوّل إحداها للأخرى باستمرار
وفي هذا التحوّل
قوةٌ ثالثة تعمل
وهي التي تُحدث التغيير
هذه الثلاثية — يانغ، يين، وتشي —
هي ما يمنح الحياة نَفَسها
ويُعطي الأشياء بدايتها، وتكوينها
كل كيانٍ يحمل في داخله الين واليانغ
وبمساعدة قوة تشي — قوة الحياة —
تتشكل الانسجامات
والتناغم بين المتقابلين
وتولد البهجة في العدل، وفي الرضى المتبادل
في ما نُسميه "دُوي"
الناس، حين يتجاوزون المصاعب والشقاء
يحاولون أن يظهروا في نظر الآخرين سعداء
لا يحبون أن يُقال عنهم: فاشلون
لكن من يملك الحظ والثراء
يقول عن نفسه عمداً: "أنا مسكين" أو "لا أنجح"
هكذا:
ما هو في الأسفل، يطمح للعلو
وما هو في الأعلى، يبحث عن التواضع، أو النزول
ومن صعد إلى مكانة عالية بالقوة والعنف
يخشى أن يُواجَه بالعنف ذاته
"دروس الحياة القاسية علّمتني الكثير
وما أعطيه للعالم، هو ما تلقيته منه"
هنا، يكمن معنى المَثل: المرآة — الانعكاس
هل تحب أن نصنع له أيضًا شكلًا شعريًا خفيفًا؟ أو ربما تركيبة موزونة ولو بسيطة؟
٤٣
اللّين يغلب القاسي مع الزمان
وما لا مادة فيه
يَنفُذ إلى ما لا مكان فيه
الحكيم الذي يُدرك هذا
يستخرج النفع من عدم الفعل
ويُعلّم علمًا بلا كلمات
لكن قلّ من في العالم
يقبل هذا المبدأ
ويتخذه منهجًا للحياة
٤٤
أيُّهما أقرب إلى الجسد: الاسم أم الحياة؟
وأيهما أعزّ: الحياة أم ممتلكات الحياة؟
أليس اجتياز الفقد أهون
من ثِقل اقتناء الأشياء؟
كلّما عظُمت الشهرة أو كثُر المال
زاد احتمال الخسارة والزوال
وكلّما امتلأت الحياة بالمشاعر والانفعالات
اشتدّ الحساب وثَقُلت العواقب
فمن التزم بالاعتدال
سَلِم من العار والمتاعب
وأطال عمره في هدوء وسلام
٤٥
عند الاقتراب من حدود الكمال
تبدو الوجوه البهيّة كأنّ فيها خللاً
الامتلاء اللامتناهي
يلامس الفراغ عند حدّه الأخير
روائع الفنّ العظيم
تبدو للعين السطحية كأنّها ساذجة، ضعيفة، بلا صنعة
والكلمات الدقيقة، حين تسعى لأقصى وضوح
قد تتعثّر في التعبير —
فالحقيقة الأسمى تسكن المفارقة
وجمالها يتجلّى في الغموض الذي يكشف شيئًا
في البرد، تُغلب القسوة بالحركة
وفي الحرّ، يُطفأ الغليان بالسكينة
وحين يأتينا العالم بأسرار غامضة
تهزّ أعماقنا وتربكنا
فإنّ صفاء الفكر، وسكون النفس
هما المفاتيح للفهم
ومصابيح النور في ظلمة الحيرة
٤٦
حين يُتَّبع الداو في الدولة
تمشي الخيول بسلام، وتُخصّب الحقول
وحين يُنسى من القلوب والبلاد
تركض خيول الحرب في الشوارع
الشهوات إن لم تُقيَّد
أخطر من الطوفان والزلزال
والرغبة في الامتلاك بلا حد
أهلكت أكثر من الخسارة والوبال
من لا يعرف لِرغباته حدًّا
تهوي به العاصفة في التيه
أما من لا يطلب ربحًا
يفوق ما يسدّ حاجته
فهو من يعيش بفرحٍ وسكينةٍ ومَعيشةٍ رضيّة
٤٧
ليس من الضروري أن تذهب بعيدًا لتعرف العالم
فمن يبتعد أكثر، يعلم أقل
الحكمة الحقيقية قريبة، حاضرة، أمام عينيك
الحكيم لا يحتاج إلى أن يفتح نافذة
لكي يفهم طريق السماء
ولا يحتاج أن يرى المظاهر
فهو يدرك الجوهر دون الشكل
ويمنح لكل شيء اسمه الصحيح
يُنجز كل ما يجب،
دون فعل،
ودون عناء
٤٨
من يتعلّم، يُراكم المعرفة يومًا بعد يوم
أما من يسلك درب الداو،
فإنه يُنقّص من معرفته يومًا بعد يوم
حتى لا يبقى ما يحتاج إلى فعله
هكذا يبلغ الحكيم حالة "اللّافعل" الكاملة
فـ"اللّافعل" الحقيقي
لا يترك شيئًا غير مُكتمل
بدون جهدٍ ولا تدخّل
يُحدث التغيير في العالم بهدوء
لكن لا جدوى من محاولة
فرض الإرادة على الناس أو الأشياء بهذه الطريقة
٤٩
الحكيم لا يحمل صفات ثابتة في قلبه
بل ينسجم قلبه مع كلّ من يلتقي به
يعامل الطيّبين بلُطف
ويُقابل الأشرار أيضًا بلُطف
فبهذا يُنمّي في قلبه فضيلة اللُّطف
يؤمن بمن يستحقّ الإيمان
ولكنه أيضًا يثق في من لا يستحقّ
فهو لا يدع نقصهم يُقلّل من صفائه
بل يزيد في نقاء قلبه دون أن يطلب النقاء منهم
لا يفرّق بين النفوس: جوهرةً كانت أم غبارًا
لا يُصنّف الناس إلى خير أو شر
بل ينظر إلى العالم بعين طفل
لا يُدين، لا يختار
ويذيب كلّ ما يرى في قلبه
في فضيلة الـده النقيّة
٥٠
منذ لحظة المجيء إلى هذا العالم
بدأ الوقت بالنقصان من حياة الإنسان
من كل عشرة،
ثلاثة فقط في زمن ازدهار
وثلاثة في نهاية المشوار
أما الأربعة الباقون،
فيسرعون بخطواتهم نحو الانهيار
ولماذا؟
لأنهم يحبّون الحياة أكثر من اللازم
لكن، يقول الناس:
من وصل إلى عمق الحياة الحقيقي
لا تخيفه وحوش الغاب
ولا تصيبه سيوف الأعداء
فلا يجد قرنُ وحيد القرن موطئًا له في جسده
ولا مخلبُ النمر طريقًا إليه
ولا السكين مكانًا للنفوذ فيه
لأن الموت لا يجد فيه بابًا للدخول
٥١
الـداو لا يتعب من خلق كل الأشياء في هذا الكون
والـدهُ يمنحها الغذاء، ويربيها، ويعلّمها، ويرعاها
في العالم المادي
هو أساس تشكيل كل شيء
وفي بيئتها وتطورها
تكمن إمكانية الوصول للكمال الأعلى
ولهذا
العالم يتبع الـداو طوعًا
وكل ظهور للـده يُقابل باحترام عميق
ليس خوفًا، ولا طاعة لأمر
بل لأنه انسجام طبيعي مع طريق الأشياء
فكل ما يخلقه الـداو
يرعاه ويحنو عليه ويغذّيه ويهديه
ويواسيه ويحميه من كل أذى —
كل هذا يتم بفضل الـده
الخلق دون امتلاك
والرعاية دون التفاخر
والقيادة دون السيطرة أو فرض القوانين —
هذه هي المبادئ التي يتبعها
من يريد أن يعيش مع الـده
هذه الآية ٥١ هي من أعمق وأجمل الآيات في كتاب الـداو ده جينغ — فيها توازن بين الإبداع، العطاء، التواضع، والحماية